السبت، 20 ديسمبر 2008


الترامال والخبيزة.. مسكنات لأوجاع غـزة


نبتـةٌ صغيـرة برية تبسـط أوراقهـا الخضـراء عـلى مسـاحاتٍ واسـعة من الأرض.. لا تحتـاج إلى زراعـة ولا تبـاع في الأسـواق... هي نبته "الخبيـزة" التي تخرج للنـور في مثـل هذه الأوقـات من كل عـام.
وتنهض الخبيـزة من سباتها على وقـع قطـرات المطـر ليتلقفهـا أهالي غـزة المحاصرة بكل شغف واشتياق، خاصة في هذه الأيام التي أغلقت فيها المعـابر وارتفـعت أثمـان الخضـروات واللحـوم وغابت مظاهر الحياة الطبيعية، حيث وجـد سكان القطاع في "الخبيزة" مـلاذا وبلسمـا يقيـهم الجـوع.
أمام ثـلاجـة فارغـة من الطعـام فـتح "أبو رأفت بدوي" باب منزلـه الذي نمت على جوانبه "الخبيزة" وبدأ في قطفهـا.. بعد بـرهة من الزمن كـانت الوجبـة الساخنة جاهزة لتصافح الأمعاء الخـاوية. يقول أبو رأفت لـ"إسلام أون لاين.نت": "إنها لذيذة.. تشبه أوراق الملوخيـة.. وتحتـوي على نسبة عالية من الفيتامينات وسهـلة التحضير.. أشعلت زوجتي الحطب وقامت بطهيها سريعا".
ومنذ يونيو 2007 تعـاني غـزة من حصـارٍ خـانق ازدادت حـدته في الأسابيع القليلة الماضيـة بشكلٍ غيـر تفاصيل وأنماط حيـاة السكـان الذين لجئوا للأساليب البدائية للتغلب على قسـوة ما يكابدون.
أوراقها "كنز"
الحـاجة أم سعـدي في العقـد السادس من عمـرها تستيقظ مبكـرا للذهاب إلى الأراضي المجـاورة لبيتها لتلتقط أكـوام الخبيـزة.. تحمل أوراقها ككنـز وتذهب بها إلى أولادها وأحفـادها.
أما "أبو خالد عبيد" فقال وهو يقطف أوراق النبتة الخضراء الداكنة: "الحمـد لله أننا لا نشتريها ولا يمكن فرض الحصار عليها!!.. نجدها في كل الطرقات أمامنا..".
وأضاف: "لدي سبـعة أطفـال.. قلت لزوجتي أن تطهـوها كـ: "طبيخ" وفي مـرةٍ ثانية تضيف إليها كسـرات الخبـز، وتارة تعدها بالأرز.. كي لا نمل طعمها"، ويستدرك بحنق: "الخضروات ارتفعت أسعارها بشكلٍ مخيف.. والفواكـه نسينا شكـلها".
ولأنها لا تملك ما يسمـح لها بطبخ وجبات أخرى فقد استعانت أم رامي بـ"الخبيزة" لإسكات صيحات صغارها وبشيء من الأسف تقـول: "يوما بعـد يوم تزداد الأمـور سوءا.. قد نجـد الآن ما نأكـله ولكـن لا ندري ما يحمله الغـد؟!".
حشائش برية
وبصوتٍ طريف تروي أم "سعيد" لـ"إسلام أون لاين.نت" حكايتها مع "الخبيـزة": "أنا أنتظـر هذا الوقت من كـل عام بفارغ الصبر؛ لكي أقطفها فهي أكلة شعبية لذيذة.. قبـل أيام كنت أنا وجـارتي في رحلة لتجميعها فاستوقفتنا عدسات الصحفيين الأجانب، وفهمنـا من بعض كلماتهم أنهم مصدومين برؤيتنا".
تبتسم ثم تستدرك: "الخبيـزة من الحشائش البريـة المشهـورة في غـزة وهذه السنة الكل انقض عليها؛ لأنه لا يـوجد بديل.. وهناك حشائش أخـرى يتم طهيها مثل الرجلة.. والحماصيص ونبتة الهليون".
جـارتها قطعت حديثها لتمضي قائلـة: "إن بقينـا على هذا الـوضع فلا غـرابة أن نأكل الحشائش والأعشـاب!".
وكانت وكالة إغاثة اللاجئين (الأونروا) وفي ظـل إغلاق معابر القطاع التجـارية قـد قالت مؤخرا إنه ولأول مـرة منذ ستين عاما لم يعـد في مخازنـها أي طعام، وأشارت إلى أنها كانت تستقبل يوميا ما بين 70_80 شـاحنة أما الآن فلا يدخل غزة من شاحناتها سوى 15 في حـال تم فتح المعـابر.
حبـوب للنسيان
وإذا كانت العائلات الفقيـرة قد وجـدت في "الخبيزة" والحشائش البرية مسكنا لها فإن العديد من أهالي القطـاع ذهبـوا للبحث عن مسكنٍ آخـر ينسيـهم هـذه المـرة حكاية المعبـر المغلق وأسطوانة الغـاز الفـارغـة والكهرباء المقطوعة.. مسكــن اسمـه "الترامال".
و"الترامال" عبارة عن حبوب بها نسبة مخدرات توصف للمرضى في الحالات التي لا يستطيع صاحبها تحمل الألم فيها، وتركيبتها مقاربة لتركيبة المخدرات؛ لأنها تجعل من يتناولها في حالة من الهدوء، وتزيل عنه أي آثار للآلام أو الإرهاق النفسي أو العصبي "التوتر"، وتستمر هذه الحالة لساعات مع من يتعاطاها.
وساهم تهريب "الترامال" بكميات هائلة عبر الأنفاق بين مصر والقطاع إلى انتشارها بين مختلف الفئات العمرية بشكل كبير.
أحـد المتعاطين لهذه الحبوب قال لـ"إسلام أون لاين.نت": "إنني أتناولها لأهرب من هذا الواقع.. ولأنسى ولو لساعاتٍ هموم ما أعانيـه.. عاطل عن العمـل والكل في المنزل يصـرخ: هات.. نريد.." مشيرا إلى أن أحد أصدقائه يمده أسبوعيا بالحبوب.
وبرغم حظر بيع "الترامال" من قبل حكـومة غـزة في الصيدليات إلا وفق وصفة طبية، إلا أن تلك الحبوب ما زالت تباع في الأسواق السوداء، ومعظمها مهربة.
الشـاب "غالب" قال: "وجدت في هذه الحبوب مسكنا.. ولو لبعض الوقت.. مللنا من السياسة والأخبار والحصـار.. نريد أن ننسى".
صاحب إحدى الصيدليات أكد لـ"إسلام أون لاين.نت" أن أكثر مبيعاته من أصناف الدواء هو "الترامال" نظرا للإقبال الشديد عليه خاصة من قبل الشباب والمتزوجين معللا ذلك بالحالة السيئة التي يعيشها الشباب والأزواج؛ نظرا لتفاقـم المشاكل حـولهم، وازدياد معدلات الفقر والبطالة، ولفت في حديثـه إلى أن الحبـوب المسكنة للألم يتم طلبـها كما لو كانت حـلوى".
أسباب الإقبال على تعاطي" الترامال" أرجـعه خبراء فلسطينيون إلى الضغط النفسي والاجتماعي الكبيـر جراء الحصار الخانق، وما خلفه من ضغـط وكبت، غير أن أوساطا طبية إسلامية عبرت عن مخاوفها من إدمان جيل الشباب على المسكنات ودعت للاستمساك بالدين في مواجهة ضغوط الحياة الشديدة.

ليست هناك تعليقات: