السبت، 20 ديسمبر 2008



التشكيل الفلسطيني.. رحلة نضال بالألوان
تحددت هوية الفن الفلسطيني كسلاح جنبا إلى جنب مع الحجارة والمقاومة دون أن يتناسى الجانب الفني منذ بدايات الانتداب البريطاني، وبذا تحدد مفهوم الحداثة والمعاصرة بأنها ليست مفاهيم مطلقة ولا عالمية، بل هي مفاهيم مرهونة بظروف ثقافية محلية، تختلف من شعب لآخر.
وفى الإطار السابق عرف الفنان الفلسطيني خاماته وموضوعات تعبيره وأسلوبه بشكل عفوي وتلقائي وضعيف، وإن غلب عليه سمة التسجيلية والتوثيقية، إلا أنها كانت مناسبة مع الواقع والتجربة التي خرج منها.
وباستثناء المحاولات الخجولة لعرض بعض اللوحات في نادي الشبيبة المسيحية بالقدس في السنوات الثلاث الأخيرة قبل النكبة، وعرض لوحات أخرى في معارض مدرسية أو في نشاطات أندية ثقافية محدودة، فإن فلسطين لم تشهد قبل عام 1948 معرضًا حقيقيا للفن التشكيلي بالمعنى المعاصر للكلمة.
فالحركة الفنية التشكيلية العربية المعاصرة قد انبعثت في أوائل القرن العشرين في معظم الدول العربية، في حين انحصر في نفس الوقت مجال الفن في فلسطين على مجالات الفنون التطبيقية والزخرفية والخط العربي، أما مجال الفن التشكيلي المعاصر فلم تشهد فلسطين في تلك الحقبة سوى محاولات لم تتخط الهواية، ولم تصل إلى مستوى الاحتراف، إلى أن وقعت أحداث النكبة 1948.
الدرجات الرمادية
كان لا بد للبدايات الفنية التشكيلية الفلسطينية المعاصرة من أن تنطلق بعد عام 1948 بالأسلوب الواقعي؛ حيث إن معظم الفلسطينيين الذين درسوا الفن هم من الذين عاشوا أحداث فلسطين الأليمة، ومن الذين شحنتهم تلك الأحداث بقدر هائل من الصور المأساوية والذكريات الحزينة.
فلقد خرجوا من مخيمات التشرد الفلسطيني وفي أعماقهم شعور نضالي تلقائي جعلهم يتطلعون إلى دراسة الفن للتمكن من أدواته وتقنياته في سبيل تكريسه لخدمة قضية شعبهم ووطنهم وإنسانيتهم.
ففي بداية الخمسينيات غطت مسحة من الحزن العميق أعمال تلك الفترة؛ نتيجة للصور المأساوية والذكريات الحزينة المختزنة في نفس الفنان، والتي كانت لا تزال حية في وجدانه وعقله.
ويعد المعرض التشكيلي الفلسطيني الأول الذي أقامه الفنان إسماعيل شموط في غزة 29-7-1953 هو بداية الانطلاقة الحقيقية في تاريخ الفن التشكيلي الفلسطيني، والذي شارك فيه الفنان إسماعيل شموط بحوالي ستين لوحة من أشهر لوحاته، منها: "إلى أين..؟" و"جرعة ماء" و"بداية المأساة" وغيرها، كما شارك فيه شقيقه الأصغر جميل شموط بعدد من الرسوم واللوحات.
والفنان إسماعيل شموط هو أول فنان فلسطيني يتخرج في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة 1953، كما أنه أول من انتخب أمينا عاما لاتحاد الفنانين التشكيلين الفلسطينيين.
ثم تلا معرضه الأول بغزة معرض آخر مهم في تاريخ الحركة الفنية الفلسطينية، والذي أقيم بالقاهرة تحت رعاية الرئيس جمال عبد الناصر بعنوان "اللاجئ الفلسطيني"، وقد شارك الفنان إسماعيل شموط في هذا المعرض بحوالي خمس وخمسين لوحة، كما شاركت فيه الفنانة الفلسطينية تمام الأكحل، والتي أكملت دراستها الفنية في العهد العالي لمعلمات الفنون بالقاهرة؛ فكانت أول فلسطينية تدرس الفن بعد 1948، شاركت بخمس عشرة لوحة، كذلك شارك فيه فنان فلسطيني ثالث بعشر لوحات هو الفنان نهاد سباسي.
قام الرئيس جمال عبد الناصر بافتتاح هذا المعرض في 21-7-1954، وقد حقق نجاحا لافتا للنظر على الأصعدة الفنية والمعنوية والمادية أيضا، كما حظي بتغطية إعلامية كبيرة عبر وسائل الإعلام المصرية.
أما في أواخر الخمسينيات، حين بدأت الآمال تنتعش في النفوس الفلسطينية والعربية؛ فقد اكتسبت اللوحة الفلسطينية روحا حيوية جديدة، ودبت فيها حرارة ملموسة في الموضوع والشكل.
قوس قزح
في أوائل الستينيات، حين كانت بذور الثورة الفلسطينية تضرب جذورها في الأرض، أصبحت اللوحة الفلسطينية والإنتاج التشكيلي بوجه عام، أكثر إشراقا من حيث الموضوع وأقوى تصميما وأشد عزما، وصارت الألوان أكثر نضوجا، والخطوط أكثر تماسكا، والتكوين أقوى ترابطا.
كما تزايد الاهتمام بالشكل ليصبح قادرا على حمل المضمون الذي هو على أية حال مضمون له ثقل إنساني كبير، يحتاج إلى قدرة وطاقة تشكيلية عظيمة لحمله.
ثم جاءت مرحلة جديدة بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وانطلاق الثورة الفلسطينية، وانتشار الأجهزة والمؤسسات ومنها المعنية بالشئون الثقافية والفنية، وتوفرت بدءا من النصف الثاني في الستينيات السلطة القادرة على رعاية ودعم الفنان وتبني مشاريعه، حيث تمكن عدد من الفنانين الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في الضفة والقطاع، ومن الذين أنهوا دراستهم الفنية بعد الاحتلال، من توحيد جهودهم وتنظيم نشاطاتهم التي زادت واتسعت مع ازدياد عدد الخريجين في معاهد وكليات الفنون الجميلة في كل عام، ويعتبر كل من كامل المغني ونبيل عناني وسليمان منصور وعصام إبراهيم من أوائل الذين برزوا في هذا المضمار، ثم بدأت أسماء جديدة تدخل ميدان الفن التشكيلي لتنضم إلى من سبقها وشكلوا معًا جبهة واحدة تمثلت في الاتحاد العام للفنانين الفلسطينيين الذي ضم كافة الفنانين التشكيلين الفلسطينيين في فلسطين المحتلة وفي بعض الأقطار العربية والمنتشرين أيضا في أنحاء الوطن العربي.
ثورة الألوان
وبعد احتلال مدينة القدس عام 1967 اقتحم جنود إسرائيليون مكتب جامعة الدول العربية في القدس لاعتقال مديره، وعندما وقع بصرهم على لوحتين كانتا معلقتين هناك فتحوا عليهما نيران أسلحتهم، وكانت إحدى اللوحتين لوحة "النكبة" والثانية "ربيع فلسطين"، وكانتا من إبداعات الفنان إسماعيل شموط.
واستمر هذا القمع لسنوات طويلة استدعي خلالها العديد من الفنانين الفلسطينيين لاستجوابهم حول لوحاتهم ونشاطهم، وصدرت ضد البعض منهم أحكام بالسجن أو بالإقامة الجبرية وبعدم مغادرة البلاد بسبب إنتاجهم ونشاطهم الفني الذي يساعد على اشتعال الانتفاضة.
ففي عام 1984 اعتقل الفنان فتحي غبن وحكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر بسبب لوحاته المثيرة للشغب والتي استخدم فيها ألوان العلم الفلسطيني، وفي أغسطس 1989 اعتقل ثلاثة من الفنانين بسبب نشاطهم الفني، وهم عدنان الزبيدي وجواد إبراهيم وخالد حوراني.
وفي الثامن من كانون أول (ديسمبر)
وبالطبع لم تسمح أجواء الانتفاضة وتصدي القوات الإسرائيلية المحتلة لها بكافة أنواع القمع الرهيب بنشاطات فنية في الأراضي الفلسطينية المحتلة (الضفة والقطاع). فانتقلت الأنشطة الفنية إلى مناطق أخرى في فلسطين، واشتملت هذه النشاطات على إقامة المعارض وتنظيم محاضرات وندوات فكرية فنية.
ألوان صنعتها القضبان
مناديل قماشية بيضاء وبعض الأقلام الملونة، أمكن تهريبها إلى أولئك الذين ملكوا موهبة الرسم دون أن يملكوا الفرصة لدراسته؛ فدرسوه بأنفسهم داخل السجون والمعتقلات، وراحوا يعبرون عن مشاعرهم وأحاسيسهم على شكل لوحات ملونة رسموها بالأقلام الملونة والأحبار وبقايا مواد محترقة وتفل الشاي على تلك المناديل البيضاء التي كانت تهرب بدورها مرة أخرى خارج السجون لتصل لبعض المؤسسات الفلسطينية، ومن ثم تشارك في المعارض التي ينظمها الاتحاد العام للفنانين الفلسطينيين.
إن مساحة كل لوحة من لوحات هؤلاء الفنانين لا تتعدى 30×30 سم، وهي مساحة المناديل القماشية، وقد اتسمت تلك الرسوم المفعمة بالمشاعر والانفعالات الوطنية والإنسانية بأسلوب خاص يصعب نسبته إلى أي من المدارس أو الأساليب الفنية، حيث كان التعبير في معظم الأحيان مباشر وبطريقة أقرب إلى رسم الملصق. ويعتبر محمد الركوعي وزهدي العدوي ومحمود عفانة ومحمد أبو كرش وعيسى عبيدو أشهر الأسماء التي انتشرت من بين هذه المجموعة والتي ما زال لها امتداد داخل سجون العدو ومعتقلاته.
وعلى صعيد آخر برز عدد من فناني الكاريكاتير والملصقات، حيث أحرز بعضهم مكانة مهمة وكان لرسومهم أثر كبير في العمل السياسي والاجتماعي بشكل عام.
ويعد الفنان الكبير ناجي العلي أبرز الرسامين على الساحة الفلسطينية دون منازع، حيث كانت رسومه تنشر في كثير من الصحف والمجلات العربية والعالمية، وقد صدرت عنه وعن رسومه ثلاثة كتب في لبنان والكويت، كما أقيمت لرسومه معارض كثيرة في العالم العربي والأجنبي قبل استشهاده وبعده، حيث قالت عنه جريدة النيويورك تايمز: "إذا أردت أن تعرف رأي العرب في أمريكا فانظر إلى رسوم ناجي العلي".
كان ولا يزال الموضوع الفلسطيني هو الهاجس الأول عند الفنانين الفلسطينيين وله المكانة الأولى في مضمون معظم الإنتاج التشكيلي الفلسطيني، فاستطاع الفنان الفلسطيني -بالرغم من قصر عمر حركته الفنية، وبالرغم من التشتت والظروف القاسية- أن يختصر الزمن ويكثف المعرفة والتجربة؛ وهو ما جعل حركته الفنية تتسم بنسبة عالية من النضوج الفني المرموق نسبيا، وتقف على قدم المساواة مع الحركات الفنية العربية الأخرى. ولذلك استفاد من كافة الأساليب الفنية دون أن يصبح أسيرا لها، بل تناولها بما يتفق مع أهدافه الفنية النضالية.
وفي 1987 بدأت مرحلة جديدة من حياة الفلسطينيين بانطلاق ثورة الحجارة "الانتفاضة" كثورة شعبية عارمة سلاحها الحجر والمقلاع، مصممة على الاستمرار حتى تحقيق أهدافها المحددة.